الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} هذا الجزء كله من السور المكية. كما كان الجزء الذي سبقه كله من السور المدنية. ولكل منهما طابع مميز، وطعم خاص.. وبعض مطالع السور في هذا الجزء من بواكير ما نزل من القرآن كمطلع سورة «المدثر» ومطلع سورة «المزمل». كما أن فيه سوراً يحتمل أن تكون قد نزلت بعد البعثة بحوالي ثلاث سنوات كسورة «القلم». وبحوالي عشر سنوات كسورة «الجن» التي يروى أنها نزلت في عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، حيث أوذي من ثقيف. ثم صرف الله إليه نفراً من الجن فاستمعوا إليه وهو يرتل القرآن، مما حكته سورة الجن في هذا الجزء. وكانت هذه الرحلة بعد وفاة خديجة وأبي طالب قبيل الهجرة بعام أو عامين. وإن كانت هناك رواية أخرى هي الأرجح بأن السورة نزلت في أوائل البعثة. والقرآن المكي يعالج في الغالب إنشاء العقيدة. في الله وفي الوحي، وفي اليوم الآخر. وإنشاء التصور المنبثق من هذه العقيدة لهذا الوجود وعلاقته بخالقه. والتعريف بالخالق تعريفاً يجعل الشعور به حياً في القلب، مؤثراً موجهاً موحياً بالمشاعر اللائقة بعبد يتجه إلى رب، وبالأدب الذي يلزمه العبد مع الرب، وبالقيم والموازين التي يزن بها المسلم الأشياء والأحداث والأشخاص. وقد رأينا نماذج من هذا في السور المكية السابقة، وسنرى نماذج منه في هذا الجزء. والقرآن المدني يعالج في الغالب تطبيق تلك العقيدة وذاك التصور وهذه الموازين في الحياة الواقعية؛ وحمل النفوس على الاضطلاع بأمانة العقيدة والشريعة في معترك الحياة، والنهوض بتكاليفها في عالم الضمير وعالم الظاهر سواء. وقد رأينا نماذج من هذا في السور المدنية السابقة ومنها سور الجزء الماضي. وهذه السورة الأولى سورة تبارك تعالج إنشاء تصور جديد للوجود وعلاقاته بخالق الوجود. تصور واسع شامل يتجاوز عالم الأرض الضيق وحيز الدنيا المحدود، إلى عوالم في السماوات، وإلى حياة في الآخرة. وإلى خلائق أخرى غير الإنسان في عالم الأرض كالجن والطير، وفي العالم الآخر كجهنم وخزنتها، وإلى عوالم في الغيب غير عالم الظاهر تعلق بها قلوب الناس ومشاعرهم، فلا تستغرق في الحياة الحاضرة الظاهرة، في هذه الأرض. كما أنها تثير في حسهم التأمل فيما بين أيديهم وفي واقع حياتهم وذواتهم مما يمرون به غافلين. وهي تهز في النفوس جميع الصور والانطباعات والرواسب الجامدة الهامدة المتخلفة من تصور الجاهلية وركودها؛ وتفتح المنافذ هنا وهناك، وتنفض الغبار، وتطلق الحواس والعقل والبصيرة ترتاد آفاق الكون، وأغوار النفس، وطباق الجو، ومسارب الماء، وخفايا الغيوب، فترى هناك يد الله المبدعة، وتحس حركة الوجود المنبعثة من قدرة الله. وتؤوب من الرحلة وقد شعرت أن الأمر أكبر، وأن المجال أوسع. وتحولت من الأرض على سعتها إلى السماء. ومن الظواهر إلى الحقائق. ومن الجمود إلى الحركة. مع حركة القدر، وحركة الحياة، وحركة الأحياء. الموت والحياة أمران مألوفان مكروران. ولكن السورة تبعث حركة التأمل فيما وراء الموت والحياة من قدر الله وبلائه، ومن حكمة الله وتدبيره: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور}. والسماء خلق ثابت أمام الأعين الجاهلة لا تتجاوزه إلى اليد التي أبدعته، ولا تلتفت لما فيه من كمال. ولكن السورة تبعث حركة التأمل والاستغراق في هذا الجمال والكمال وما وراءها من حركة وأهداف: {الذي خلق سبع سماوات طباقاً. ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور؟ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير.. ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين..}. والحياة الدنيا تبدو في الجاهلية غاية الوجود، ونهاية المطاف. ولكن السورة تكشف الستار عن عالم آخر هو حاضر للشياطين وللكافرين. وهو خلق آخر حافل بالحركة والتوفز والانتظار: {وأعتدنا لهم عذاب السعير. وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير. إذآ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور. تكاد تميز من الغيظ. كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتهآ: ألم يأتكم نذير. قالوا: بلى! قد جآءنا نذير فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء؛ إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير!}. والنفوس في الجاهلية لا تكاد تتجاوز هذا الظاهر الذي تعيش فيه، ولا تلقي بالاً إلى الغيب وما يحتويه. وهي مستغرقة في الحياة الدنيا محبوسة في قفص الأرض الثابتة المستقرة. فالسورة تشد قلوبهم وأنظارهم إلى الغيب وإلى السماء وإلى القدرة التي لم ترها عين، ولكنها قادرة تفعل ما تشاء حيث تشاء وحين تشاء؛ وتهز في حسهم هذه الأرض الثابتة التي يطمئنون إليها ويستغرقون فيها {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير. وأسروا قولكم أو اجهروا به، إنه عليم بذات الصدور. ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور. أأمنتم من في السمآء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور؟ أم أمنتم من في السمآء أن يرسل عليكم حاصباً؟ فستعلمون كيف نذير}.. والطير. إنه خلق يرونه كثيراً ولا يتدبرون معجزته إلا قليلاً. ولكن السورة تمسك بأبصارهم لتنظر وبقلوبهم لتتدبر، وترى قدرة الله الذي صور وقدر: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن؟ ما يمسكهن إلا الرحمن، إنه بكل شيء بصير}. وهم آمنون في دارهم، مطمئنون إلى مكانهم، طمأنينة الغافل عن قدرة الله وقدره. ولكن السورة تهزهم من هذا السبات النفسي، بعد أن هزت الأرض من تحتهم وأثارت الجو من حولهم، تهزهم على قهر الله وجبروته الذي لا يحسبون حسابه: {أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن؟ إن الكافرون إلا في غرور}. والرزق الذي تناله أيديهم، إنه في حسهم قريب الأسباب، وهي بينهم تنافس وغلاب. ولكن السورة تمد أبصارهم بعيداً هنالك في السماء، ووراء الأسباب المعلومة لهم كما يظنون: {أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه؟ بل لجوا في عتو ونفور}.. وهم سادرون في غيهم يحسبون أنهم مهتدون وهم ضالون. فالسورة ترسم لهم حقيقة حالهم وحال المهتدين حقاً، في صورة متحركة موحية: {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى؟ أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم؟}. وهم لا ينتفعون بما رزقهم الله في ذوات أنفسهم من استعدادات ومدارك؛ ولا يتجاوزون ما تراه حواسهم إلى التدبر فيما وراء هذا الواقع القريب. فالسورة تذكرهم بنعمة الله فيما وهبهم، وتوجههم إلى استخدام هذه الهبة في تنور المستقبل المغيب وراء الحاضر الظاهر، وتدبر الغاية من هذه البداية: {قل: هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلاً ما تشكرون. قل: هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون}.. وهم يكذبون بالبعث والحشر، ويسألون عن موعده. فالسورة تصوره لهم واقعاً مفاجئاً قريباً يسؤوهم أن يكون: {ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ قل إنما العلم عند الله، وإنمآ أنا نذير مبين. فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا، وقيل: هذا الذي كنتم به تدعون!}.. وهم يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه أن يهلكوا فيستريحوا من هذا الصوت الذي يقض عليهم مضجعهم بالتذكير والتحذير والإيقاظ من راحة الجمود! فالسورة تذكرهم بأن هلاك الحفنة المؤمنة أو بقاءها لا يؤثر فيما ينتظرهم هم من عذاب الله على الكفر والتكذيب، فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم وحالهم قبل ذلك اليوم العصيب: {قل: أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم؟ قل: هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين}. وتنذرهم السورة في ختامها بتوقع ذهاب الماء الذي به يعيشون، والذي يجريه هو الله الذي به يكفرون! {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين؟}.. إنها حركة. حركة في الحواس، وفي الحس، وفي التفكير، وفي الشعور. ومفتاح السورة كلها. ومحورها الذي تشد إليه تلك الحركة فيها، هو مطلعها الجامع الموحي: {تبارك الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير}. وعن حقيقة الملك وحقيقة القدرة تتفرع سائر الصور التي عرضتها السورة، وسائر الحركات المغيبة والظاهرة التي نبهت القلوب إليها.. فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة. وكان الابتلاء بهما. وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح وجعلها رجوماً للشياطين. وكان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها. وكان العلم بالسر والجهر. وكان جعل الأرض ذلولاً للبشر. وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذبين الأولين. وكان إمساك الطير في السماء. وكان القهر والاستعلاء. وكان الرزق كما يشاء. وكان الإنشاء وهبة السمع والأبصار والأفئدة. وكان الذرء في الأرض والحشر. وكان الاختصاص بعلم الآخرة. وكان عذاب الكافرين. وكان الماء الذي به الحياة وكان الذهاب به عندما يريد.. فكل حقائق السورة وموضوعاتها، وكل صورها وإيحاءاتها مستمدة من إيحاء ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير: {تبارك الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير} !! وحقائق السورة وإيحاءاتها تتوالى في السياق، وتتدفق بلا توقف، مفسرة مدلول المطلع المجمل الشامل، مما يصعب معه تقسيمها إلى مقاطع! ويستحسن معه استعراضها في سياقها بالتفصيل: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير}.. هذه التسبيحة في مطلع السورة توحي بزيادة بركة الله ومضاعفتها، وتمجيد هذه البركة الرابية الفائضة. وذكر الملك بجوارها يوحي بفيض هذه البركة على هذا الملك، وتمجيدها في الكون بعد تمجيدها في جناب الذات الإلهية. وهي ترنيمة تتجاوب بها أرجاء الوجود، ويعمر بها قلب كل موجود. وهي تنطلق من النطق الإلهي في كتابه الكريم، من الكتاب المكنون، إلى الكون المعلوم. {تبارك الذي بيده الملك}.. فهو المالك له، المهيمن عليه، القابض على ناصيته، المتصرف فيه.. وهي حقيقة. حين تستقر في الضمير تحدد له الوجهة والمصير؛ وتخليه من التوجه أو الاعتماد أو الطلب من غير المالك المهيمن المتصرف في هذا الملك بلا شريك؛ كما تخليه من العبودية والعبادة لغير المالك الواحد، والسيد الفريد! {وهو على كل شيء قدير}.. فلا يعجزه شيء، ولا يفوته شيء، ولا يحول دون إرادته شيء، ولا يحد مشيئته شيء. يخلق ما يشاء، ويفعل ما يريد، وهو قادر على ما يريده غالب على أمره؛ لا تتعلق بإرادته حدود ولا قيود.. وهي حقيقة حين تستقر في الضمير تطلق تصوره لمشيئة الله وفعله من كل قيد يرد عليه من مألوف الحس أو مألوف العقل أو مألوف الخيال! فقدرة الله وراء كل ما يخطر للبشر على أي حال.. والقيود التي ترد على تصور البشر بحكم تكوينهم المحدود تجعلهم أسرى لما يألفون في تقدير ما يتوقعون من تغيير وتبديل فيما وراء اللحظة الحاضرة والواقع المحدود. فهذه الحقيقة تطلق حسهم من هذا الإسار. فيتوقعون من قدرة الله كل شيء بلا حدود. ويكلون لقدرة الله كل شيء بلا قيود. وينطلقون من أسر اللحظة الحاضرة والواقع المحدود. {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور}.. ومن آثار تمكنه المطلق من الملك وتصريفه له، وآثاره قدرته على كل شيء وطلاقة إرادته.. أنه خلق الموت والحياة. والموت يشمل الموت السابق على الحياة والموت اللاحق لها. والحياة تشمل الحياة الأولى والحياة الآخرة. وكلها من خلق الله كما تقرر هذه الآية، التي تنشئ هذه الحقيقة في التصور الإنساني؛ وتثير إلى جانبها اليقظة لما وراءها من قصد وابتلاء. فليست المسألة مصادفة بلا تدبير. وليست كذلك جزافاً بلا غاية. إنما هو الابتلاء لإظهار المكنون في علم الله من سلوك الأناسي على الأرض، واستحقاقهم للجزاء على العمل: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}.. واستقرار هذه الحقيقة في الضمير يدعه أبداً يقظاً حذراً متلفتاً واعياً للصغيرة والكبيرة في النية المستسرة والعمل الظاهر. ولا يدعه يغفل أو يلهو. كذلك لا يدعه يطمئن أو يستريح. ومن ثم يجيء التعقيب: {وهو العزيز الغفور} ليسكب الطمأنينة في القلب الذي يرعى الله ويخشاه. فالله عزيز غالب ولكنه غفور مسامح. فإذا استيقظ القلب، وشعر أنه هنا للابتلاء والاختبار، وحذر وتوقى، فإن له أن يطمئن إلى غفران الله ورحمته وأن يقر عندها ويستريح! إن الله في الحقيقة التي يصورها الإسلام لتستقر في القلوب، لا يطارد البشر، ولا يعنتهم، ولا يحب أن يعذبهم. إنما يريد لهم أن يتيقظوا لغاية وجودهم؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى حقيقتهم؛ وأن يحققوا تكريم الله لهم بنفخة روحه في هذا الكيان وتفضيله على كثير من خلقه. فإذا تم لهم هذا فهناك الرحمة السابغة والعون الكبير والسماحة الواسعة والعفو عن كثير. ثم يربط هذه الحقيقة بالكون كله في أكبر وأرفع مجاليه؛ كما يربط به من الناحية الأخرى حقيقة الجزاء في الآخرة، بعد الابتلاء بالموت والحياة: {الذي خلق سبع سماوات طباقاً، ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور؟ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير. ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح، وجعلناها رجوماً للشياطين، وأعتدنا لهم عذاب السعير. وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم، وبئس المصير. إذآ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور. تكاد تميز من الغيظ، كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتهآ: ألم يأتكم نذير؟ قالوا: بلى! قد جآءنا نذير فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء، إن أنتم إلا في ضلال كبير. وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير!}. وكل ما في هذه الآيات آثار لمدلول الآية الأولى، ومظاهر للهيمنة المتصرفة في الملك، وللقدرة التي لا يقيدها قيد. ثم هي بعد ذلك تصديق للآية الثانية من خلق الموت والحياة للابتلاء، ثم الجزاء. والسماوات السبع الطباق التي تشير إليها لا يمكن الجزم بمدلولها، استقاء من نظريات الفلك، فهذه النظريات قابلة للتعديل والتصحيح، كلما تقدمت وسائل الرصد والكشف. ولا يجوز تعليق مدلول الآية بمثل هذه الكشوف القابلة للتعديل والتصحيح. ويكفي أن نعرف أن هناك سبع سماوات. وأنها طباق بمعنى أنها طبقات على أبعاد متفاوته. والقرآن يوجه النظر إلى خلق الله، في السماوات بصفة خاصة وفي كل ما خلق بصفة عامة. يوجه النظر إلى خلق الله، وهو يتحدى بكماله كمالاً يرد البصر عاجزاً كليلاً مبهوراً مدهوشاً. {ما ترى من خلق الرحمن من تفاوت}.. فليس هناك خلل ولا نقص ولا اضطراب.. {فارجع البصر}.. وانظر مرة أخرى للتأكد والتثبت {هل ترى من فطور؟}.. وهل وقع نظرك على شق أو صدع أو خلل؟ {ثم ارجع البصر كرتين} فربما فاتك شيء في النظرة السابقة لم تتبينه، فأعد النظر ثم أعده {ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير}.. وأسلوب التحدي من شأنه أن يثير الاهتمام والجد في النظر إلى السماوات وإلى خلق الله كله. وهذه النظرة الحادة الفاحصة المتأملة المتدبرة هي التي يريد القرآن أن يثيرها وأن يبعثها. فبلادة الألفة تذهب بروعة النظرة إلى هذا الكون الرائع العجيب الجميل الدقيق، الذي لا تشبع العين من تملي جماله وروعته، ولا يشبع القلب من تلقي إيحاءاته وإيماءاته؛ ولا يشبع العقل من تدبر نظامه ودقته. والذي يعيش منه من يتأمله بهذه العين في مهرجان إلهي باهر رائع، لا تخلق بدائعه، لأنها أبداً متجددة للعين والقلب والعقل. والذي يعرف شيئاً عن طبيعة هذا الكون ونظامه كما كشف العلم الحديث عن جوانب منها يدركه الدهش والذهول. ولكن روعة الكون لا تحتاج إلى هذا العلم. فمن نعمة الله على البشر أن أودعهم القدرة على التجاوب مع هذا الكون بمجرد النظر والتأمل؛ فالقلب يتلقى إيقاعات هذا الكون الهائل الجميل تلقياً مباشراً حين يتفتح ويستشرف. ثم يتجاوب مع هذه الإيقاعات تجاوب الحي مع الحي؛ قبل أن يعلم بفكره وبأرصاده شيئاً عن هذا الخلق الهائل العجيب. ومن ثم يكل القرآن الناس إلى النظر في هذا الكون، وإلى تملي مشاهدة وعجائبه. ذلك أن القرآن يخاطب الناس جميعاً، وفي كل عصر. يخاطب ساكن الغابة وساكن الصحراء، كما يخاطب ساكن المدينة ورائد البحار. وهو يخاطب الأمي الذي لم يقرأ ولم يخط حرفاً، كما يخاطب العالم الفلكي والعالم الطبيعي والعالم النظري سواء. وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يصله بهذا الكون، وما يثير في قلبه التأمل والاستجابة والمتاع. والجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال. بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة. فالكمال يبلغ درجة الجمال. ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح}.. وما السماء الدينا؟ لعلها هي الأقرب إلى الأرض وسكانها المخاطبين بهذا القرآن. ولعل المصابيح المشار إليها هنا هي النجوم والكواكب الظاهرة للعين، التي نراها حين ننظر إلى السماء. فذلك يتسق مع توجيه المخاطبين إلى النظر في السماء. وما كانوا يملكون إلا عيونهم، وما تراه من أجرام مضيئة تزين السماء. ومشهد النجوم في السماء جميل. ما في هذا شك. جميل جمالاً يأخذ بالقلوب. وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته؛ ويختلف من صباح إلى مساء، ومن شروق إلى غروب، ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء. ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب.. بل إنه ليختلف من ساعة لساعة. ومن مرصد لمرصد.. زمن زاوية لزاوية.. وكله جمال وكله يأخذ بالألباب. هذه النجمة الفريدة التي توصوص هناك، وكأنها عين جميلة، تلتمع بالمحبة والنداء! وهاتان النجمتان المنفردتان هناك، وقد خلصتا من الزحام تتناجيان! وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك، وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء. وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان! وهذا القمر الحالم الساهي ليلة. والزاهي المزهو ليلة. والمنكسر الخفيض ليلة. والوليد المتفتح للحياة ليلة. والفاني الذي يدلف للفناء ليلة.. ! وهذا الفضاء الوسيع الذي لا يمل البصر امتداده، ولا يبلغ البصر آماده. إنه الجمال. الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه، ولكن لا يجد له وصفاً فيما يملك من الألفاظ والعبارات! والقرآن يوجه النفس إلى جمال السماء، وإلى جمال الكون كله، لأن إدراك جمال الوجود هو أقرب وأصدق وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود. وهذا الإدراك هو الذي يرفع الإنسان إلى أعلى أفق يمكن أن يبلغه، لأنه حينئذ يصل إلى النقطة التي يتهيأ فيها للحياة الخالدة، في عالم طليق جميل، بريء من شوائب العالم الأرضي والحياة الأرضية. وإن أسعد لحظات القلب البشري لهي اللحظات التي يتقبل فيها جمال الإبداع الإلهي في الكون. ذلك أنها هي اللحظات التي تهيئه وتمهد له ليتصل بالجمال الإلهي ذاته ويتملاه. ويذكر النص القرآن هنا أن هذه المصابيح التي زين الله السماء الدنيا بها هي كذلك ذات وظيفة أخرى: {وجعلناها رجوماً للشياطين}.. وقد جرينا في هذه الظلال على قاعدة ألا نتزيد بشيء في أمر الغيبيات التي يقص الله علينا طرفاً من خبرها؛ وأن نقف عند حدود النص القرآني لا نتعداه. وهو كاف بذاته لإثبات ما يعرض له من أمور. فنحن نؤمن أن هناك خلقاً اسمهم الشياطين، وردت بعض صفاتهم في القرآن، وسبقت الإشارة إليها في هذه الظلال، ولا نزيد عليها شيئاً ونحن نؤمن أن الله جعل من هذه المصابيح التي تزين السماء الدنيا رجوماً للشياطين، في صورة شهب كما جاء في سورة أخرى: {وحفظاً من كل شيطان مارد} {إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب} كيف؟ من أي حجم؟ في أية صورة؟ كل ذلك لم يقل لنا الله عنه شيئاً، وليس لنا مصدر آخر يجوز استفتاؤه في مثل هذا الشأن. فلنعلم هذا وحده ولنؤمن بوقوعه. وهذا هو المقصود. ولو علم الله أن هناك خيراً في الزيادة أو الإيضاح أو التفصيل لفصل سبحانه. فما لنا نحن نحاول ما لم يعلم الله أن فيه خيراً؟: في مثل هذا الأمر. أمر رجم الشياطين؟! ثم يستطرد فيما أعده الله للشياطين غير المرجوم: {وأعتدنا لهم عذاب السعير}.. فالرجوح في الدنيا وعذاب السعير في الآخرة لأولئك الشياطين. ولعل مناسبة ذكر هذا، الذي أعده الله للشياطين في الدنيا والآخرة هي ذكر السماء أولاً، ثم ما يجيء بعد من ذكر الذين كفروا. والعلاقة بين الشياطين والذين كفروا علاقة ملحوظة. فلما ذكر مصابيح السماء ذكر اتخاذها رجوماً للشياطين. ولما ذكر ما أعد للشياطين من عذاب السعير ذكر بعده ما أعده للذين كفروا من أتباع هؤلاء الشياطين: {وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير}.. ثم يرسم مشهداً لجهنم هذه، وهي تستقبل الذين كفروا في غيظ وحنق شديد: {إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور. تكاد تميز من الغيظ!}.. وجهنم هنا مخلوقة حية، تكظم غيظها، فترتفع أنفاسها في شهيق وتفور؛ ويملأ جوانحها الغيظ فتكاد تتمزق من الغيظ الكظيم وهي تنطوي على بغض وكره يبلغ إلى حد الغيظ والحنق على الكافرين! والتعبير في ظاهره يبدو مجازاً تصويرياً لحالة جهنم. ولكنه فيما نحس يقرر حقيقة. فكل خليقة من خلائق الله حية ذات روح من نوعها. وكل خليقة تعرف ربها وتسبح بحمده؛ وتدهش حين ترى الإنسان يكفر بخالقه، وتتغيظ لهذا الجحود المنكر الذي تنكره فطرتها وتنفر منه روحها. وهذه الحقيقة وردت في القرآن في مواضع شتى تشعر بأنها تقرر حقيقة مكنونة في كل شيء في هذا الوجود. فقد جاء بصريح العبارة في القرآن: {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم} وورد كذلك: {يا جبال أوبي معه والطير} وهي تعبيرات صريحة مباشرة لا مجال فيها للتأويل. كذلك ورد {ثم استوى إلى السمآء وهي دخان فقال لها وللأرض: ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتآ: أتينا طآئعين} مما يحتمل أن يقال فيه إنه مجاز تصويري لحقيقة خضوع السماء والأرض لناموس الله. ولكن هذا التأويل لا ضرورة له. بل هو أبعد من المعنى المباشر الصريح. ووردت صفة جهنم هذه. كما ورد في موضع آخر تعبير عن دهشة الكائنات وغيظها للشرك بربها: {لقد جئتم شيئاً إدًّا. تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدَّا، أن دعوا للرحمن ولداَ، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} وكل هذه النصوص تشير إلى حقيقة، حقيقة إيمان الوجود كله بخالقه، وتسبيح كل شيء بحمده. ودهشة الخلائق وراتياعها لشذوذ الإنسان حين يكفر، ويشذ عن هذا الموكب؛ وتحفز هذه الخلائق للانقضاض على الإنسان في غيظ وحنق؛ كالذي يطعن في عزيز عليه كريم على نفسه، فيغتاظ ويحنق، ويكاد من الغيظ يتمزق. كما هو حال جهنم وهي: {تفور. تكاد تميز من الغيظ!}. كذلك نلمح هذه الظاهرة في خزنة جهنم: {كلما القي فيها فوج سألهم خزنها. ألم يأتكم نذير؟}.. وواضح أن هذا السؤال في هذا الموضع هو للتأنيب والترذيل. فهي مشاركة لجهنم في الغيظ والحنق. كما هي مشاركة لها في التعذيب. وليس أمرّ من الترذيل والتأنيب للضائق المكروب! والجواب في ذلة وانكسار واعتراف بالحمق والغفلة، بعد التبجح والإنكار واتهام الرسل بالضلال: {قالوا: بلى! قد جآءنا نذير فكذبنا، وقلنا: ما نزل الله من شيء. إن أنتم إلا في ضلال كبير. وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير!}.. فالذي يسمع أو يعقل، لا يورد نفسه هذا المورد الوبيء. ولا يجحد بمثل ما جحد به أولئك المناكيد. ولا يسارع باتهام الرسل بالضلال على هذا النحو المتبجح الوقح، الذي لا يستند في الإنكار إلى دليل. ثم ينكر ويدعي ذلك الادعاء العريض على رسل الله الصادقين يقول: {ما نزل الله من شيء: إن أنتم إلا في ضلال كبير} ! {فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير}.. والسحق البعد. وهو دعاء عليهم من الله بعد اعترافهم بذنبهم في الموقف الذي لم يؤمنوا به ولم يصدقوا بوقوعه. والدعاء من الله قضاء. فهم مبعدون من رحمته. لا رجاء لهم في مغفرة، ولا إقالة لهم من عذاب. وهم أصحاب السعير الملازمون له. ويا لها من صحبة! ويا له من مصير! وهذا العذاب، عذاب السعير، في جهنم التي تشهق بأنفاسها وهي تفور، عذاب شديد مروع حقاً. والله لا يظلم أحداً. ونحسب والله أعلم أن النفس التي تكفر بربها وقد أودع فطرتها حقيقة الإيمان ودليله هي نفس فرغت من كل خير. كما فرغت من كل صفة تجعل لها اعتباراً في الوجود، فهي كالحجر الذي توقد به جهنم. وقد انتهت إلى نكسة وارتكاس مكانها هذه النار، إلى غير نجاة منها ولا فرار! والنفس التي تكفر بالله في الأرض تظل تنتكس وترتكس في كل يوم تعيشه، حتى تنتهي إلى صورة بشعة مسيخة شنيعة، صورة منكرة جهنمية نكيرة. صورة لا يماثلها شيء في هذا الكون في بشاعتها ومسخها وشناعتها. فكل شيء روحه مؤمنة، وكل شيء يسبح بحمد ربه، وكل شيء فيه هذا الخير، وفيه هذه الوشيجة التي تشده إلى محور الوجود.. ما عدا هذه النفوس الشاردة المفلتة من أواصر الوجود، الآبدة الشريرة، الجاسية الممسوخة النفور. فأي مكان في الوجود كله تنتنهي إليه، وهي مبتوتة الصلة بكل شيء في الوجود؟ إنها تنتهي إلى جهنم المتغيظة المتلمظة، الحارقة، المهدرة لكل معنى ولكل حق ولكل كرامة؛ بعد أن لم يعد لتلك النفوس معنى ولا حق ولا كرامة! والمألوف في سياق القرآن أن يعرض صفحتين متقابلتين في مشاهد القيامة. فهو يعرض هنا صفحة المؤمنين في مقابل صفحة الكافرين، تتمة لمدلول الآية الثانية في السورة: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}.. بذكر الجزاء بعد ذكر الابتلاء: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب، لهم مغفرة وأجر كبير}.. والغيب المشار إليه هنا يشمل خشيتهم لربهم الذي لم يروه، كما يشمل خشيتهم لربهم وهم في خفية عن الأعين، وكلاهما معنى كبير، وشعور نظيف، وإدراك بصير. يؤهل الجزاء العظيم الذي يذكره السياق في إجمال: وهو المغفرة والتكفير، والأجر الكبير، ووصل القلب بالله في السر والخفية، وبالغيب الذي لا تطلع عليه العيون، هو ميزان الحساسية في القلب البشري وضمانة الحياة للضمير.. قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا الحارث بن عبيد، عن ثابت، عن أنس، قال: قالوا: «يا رسول الله إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناك كنا على غيره. قال:» كيف أنتم وربكم؟ «قالوا: الله ربنا في السر والعلانية. قال: ليس ذلكم النفاق». فالصلة بالله هي الأصل. فمتى انعقدت في القلب فهو مؤمن صادق موصول. وهذه الآية السابقة تربط ما قبلها في السياق بما بعدها، في تقرير علم الله بالسر والجهر، وهو يتحدى البشر. وهو الذي خلق نفوسهم، ويعلم مداخلها ومكامنها، التي أودعها إياها: {وأسروا قولكم أو اجهروا به، إنه عليم بذات الصدور. ألا يعلم من خلق؛ وهو اللطيف الخبير؟}. أسروا أو اجهروا فهو مكشوف لعلم الله سواء. وهو يعلم ما هو أخفى من الجهر والسر. {إنه عليم بذات الصدور} التي لم تفارق الصدور! عليم بها، فهو الذي خلقها في الصدور، كما خلق الصدور! {ألا يعلم من خلق؟} ألا يعلم وهو الذي خلق؟ {وهو اللطيف الخبير؟} الذي يصل علمه إلى الدقيق الصغير والخفي المستور. إن البشر وهم يحاولون التخفي من الله بحركة أو سر أو نية في الضمير، يبدون مضحكين! فالضمير الذي يخفون فيه نيتهم من خلق الله، وهو يعلم دروبه وخفاياه. والنية التي يخفونها هي كذلك من خلقه وهو يعلمها ويعلم أين تكون. فماذا يخفون؟ وأين يستخفون؟ والقرآن يعنى بتقرير هذه الحقيقة في الضمير. لأن استقرارها فيه ينشئ له إدراكاً صحيحاً للأمور. فوق ما يودعه هناك من يقظة وحساسية وتقوى، تناط بها الأمانة التي يحملها المؤمن في هذه الأرض. أمانة العقيدة وأمانة العدالة، وأمانة التجرد لله في العمل والنية. وهو لا يتحقق إلا حين يستيقن القلب أنه هو وما يكمن فيه من سر ونية هو من خلق الله الذي يعلمه الله. وهو اللطيف الخبير.. عندئذ يتقي المؤمن النية المكنونة، والهاجس الدفين، كما يتقي الحركة المنظورة، والصوت الجهير. وهو يتعامل مع الله الذي يعلم السر والجهر، الله الذي خلق الصدور فهو يعلم ما في الصدور. ثم ينتقل بهم السياق من ذوات أنفسهم التي خلقها الله، إلى الأرض التي خلقها لهم، وذللها وأودعها أسباب الحياة: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً، فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه، وإليه النشور}.. والناس لطول ألفتهم لحياتهم على هذه الأرض؛ وسهولة استقرارهم عليها، وسيرهم فيها، واستغلالهم لتربتها ومائها وهوائها وكنوزها وقواها وأرزاقها جميعاً.. ينسون نعمة الله في تذليلها لهم وتسخيرها. والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة، ويبصرهم بها، في هذا التعبير الذي يدرك منه كل أحد وكل جيل بقدر ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول. والأرض الذلول كانت تعني في أذهان المخاطبين القدامى، هذه الأرض المذللة للسير فيها بالقدم وعلى الدابة، وبالفلك التي تمخر البحار. والمذللة للزرع والجني والحصاد. والمذللة للحياة فيها بما تحويه من هواء وماء وتربة تصلح للزرع والإنبات. وهي مدلولات مجملة يفصلها العلم فيما اهتدى إليه حتى اليوم تفصيلاً يمد في مساحة النص القرآني في الإدراك. فمما يقوله العلم في مدلول الأرض الذلول: إن هذا الوصف: {ذلولاً}.. الذي يطلق عادة على الدابة، مقصودة في إطلاقه على الأرض! فالأرض هذه التي نراها ثابتة مستقرة ساكنة، هي دابة متحركة.. بل رامحة راكضة مهطعة!! وهي في الوقت ذاته ذلول لا تلقي براكبها عن ظهرها، ولا تتعثر خطاها، ولا تخضه وتهزه وترهقه كالدابة غير الذلول! ثم هي دابة حلوب مثلما هي ذلول! إن هذه الدابة التي نركبها تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة، ثم تدور مع هذا حول الشمس بسرعة حوالي خمسة وستين ألف ميل في الساعة. ثم تركض هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها بمعدل عشرين ألف ميل في الساعة، مبتعدة نحو برج الجبار في السماء.. ومع هذا الركض كله يبقى الإنسان على ظهرها آمناً مستريحاً مطمئناً معافى لا تتمزق أوصاله، ولا تتناثر أشلاؤه، بل لا يرتج مخه ولا يدوخ، ولا يقع مرة عن ظهر هذه الدابة الذلول! وهذه الحركات الثلاث لها حكمة. وقد عرفنا أثر اثنتين منها في حياة هذا الإنسان، بل في الحياة كلها على ظهر هذه الأرض. فدورة الأرض حول نفسها هي التي ينشأ عنها الليل والنهار. ولو كان الليل سرمداً لجمدت الحياة كلها من البرد، ولو كان النهار سرمداً لاحترقت الحياة كلها من الحر.. ودورتها حول الشمس هي التي تنشأ عنها الفصول. ولو دام فصل واحد على الأرض ما قامت الحياة في شكلها هذا كما أرادها الله. أما الحركة الثالثة فلم يكشف ستار الغيب عن حكمتها بعد. ولا بد أن لها ارتباطاً بالتناسق الكوني الكبير. وهذه الدابة الذلول التي تتحرك كل هذه الحركات الهائلة في وقت واحد، ثابتة على وضع واحد في أثناء الحركة يحدده ميل محورها بمقدار23. 5ْ لأن هذا الميل هو الذي تنشأ عنه الفصول الأربعة مع حركة الأرض حول الشمس، والذي لو اختل في أثناء الحركة لاختلت الفصول التي تترتب عليها دورة النبات بل دورة الحياة كلها في هذه الحياة الدنيا! والله جعل الأرض ذلولاً للبشر بأن جعل لها جاذبية تشدهم إليها في أثناء حركاتها الكبرى، كما جعل لها ضغطاً جوياً يسمح بسهولة الحركة فوقها. ولو كان الضغط الجوي أثقل من هذا لتعذر أو تعسر على الإنسان أن يسير ويتنقل حسب درجة ثقل الضغط فإما أن يسحقه أو يعوقه. ولو كان أخف لاضطربت خطى الإنسان أو لانفجرت تجاويفه لزيادة ضغطه الذاتي على ضغط الهواء حوله، كما يقع لمن يرتفعون في طبقات الجو العليا بدون تكييف لضغط الهواء! والله جعل الأرض ذلولاً ببسط سطحها وتكوين هذه التربة اللينة فوق السطح. ولو كانت صخوراً صلدة- كما يفترض العلم بعد برودها وتجمدها- لتعذر السير فيها، ولتعذر الإنبات. ولكن العوامل الجوية من هواء وأمطار وغيرها هي التي فتتت هذه الصخور الصلدة، وأنشأ الله بها هذه التربة الخصبة الصالحة للحياة. وأنشأ ما فيها من النبات والأرزاق التي يحلبها راكبو هذه الدابة الذلول! والله جعل الأرض ذلولاً بأن جعل الهواء المحيط بها محتوياً للعناصر التي تحتاج الحياة إليها، بالنسب الدقيقة التي لو اختلت ما قامت الحياة، وما عاشت إن قدر لها أن تقوم من الأساس. فنسبة الأكسجين فيه هي 21% تقريباً ونسبة الأزوت أو النتروجين هي 78% تقريباً والبقية من ثاني أكسيد الكربون بنسبة ثلاثة أجزاء من عشرة آلاف وعناصر أخرى. وهذه النسب هي اللازمة بالضبط لقيام الحياة على الأرض! والله جعل الأرض ذلولاً بآلاف من هذه الموافقات الضرورية لقيام الحياة.. ومنها حجم الأرض وحجم الشمس والقمر، وبعد الأرض عن الشمس والقمر. ودرجة حرارة الشمس. وسمك قشرة الأرض. ودرجة سرعتها. وميل محورها. ونسبة توزيع الماء واليابس فيها. وكثافة الهواء المحيط بها.. إلى آخره.. إلى آخره. وهذه الموافقات مجتمعة هي التي جعلت الأرض ذولاً. . وهي التي جعلت فيها رزقاً، وهي التي سمحت بوجود الحياة، وبحياة هذا الإنسان على وجه خاص. والنص القرآني يشير إلى هذه الحقائق ليعيها كل فرد وكل جيل بالقدر الذي يطيق، وبالقدر الذي يبلغ إليه علمه وملاحظته، ليشعر بيد الله الذي بيده الملك وهي تتولاه وتتولى كل شيء حوله، وتذلل له الأرض، وتحفظه وتحفظها. ولو تراخت لحظة واحدة عن الحفظ لاختل هذا الكون كله وتحطم بمن عليه وما عليه! فإذا استيقظ ضميره لهذه الحقيقة الهائلة أذن له الخالق الرحمن الرحيم بالمشي في مناكبها والأكل من رزقه فيها: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه}. والمناكب المرتفعات، أو الجوانب. وإذا أذن له بالمشي في مناكبها فقد أذن له بالمشي في سهولها وبطاحها من باب أولى. فمتى أذن له في الشموس منها فقد أذن له في الذلول! والرزق الذي فيها كله من خلقه، وكله من ملكه، وهو أوسع مدلولاً مما يتبادر إلى أذهان الناس من كلمة الرزق. فليس هو المال الذي يجده أحدهم في يده، ليحصل به على حاجياته ومتاعه. إنما هو كل ما أودعه الله هذه الأرض، من أسباب الرزق ومكوناته. وهي في الأصل ترجع إلى طبيعة تكوين الأرض من عناصرها التي تكونت منها، وطبيعة تقسيم هذه العناصر بهذه النسب التي وجدت بها. ثم القدرة التي أودعها الله النبات والحيوان ومنه الإنسان على الانتفاع بهذه العناصر. وفي اختصار نشير إلى أطراف من حقيقة الرزق بهذا المعنى: «تعتمد حياة كل نبات كما هو معروف على المقادير التي تكاد تكون متناهية في الصغر من ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء، والتي يمكن القول بأنها تتنسمها. ولكي نوضح هذا التفاعل الكيماوي المركب المختص بالتركيب الضوئي بأبسط طريقة ممكنة نقول:» إن أوراق الشجر هي رئات، وإن لها القدرة في ضوء الشمس على تجزئة ثاني أكسيد الكربون العنيد إلى كربون وأكسجين. وبتعبير آخر يلفظ الأكسجين ويحتفظ بالكربون متحداً مع هيدروجين الماء الذي يستمده النبات من جذوره (حيث يفصل الماء إلى هيدروجين وأكسجين). وبكيمياء سحرية تصنع الطبيعة من هذه العناصر سكراً أو سليلوزا ومواد كيمائية أخرى عديدة، وفواكه وأزهارا. ويغذي النبات نفسه، وينتج فائضاً يكفي لتغذية كل حيوان على وجه الأرض. وفي الوقت نفسه يلفظ النبات الأكسجين الذي نتنسمه والذي بدونه تنتهي الحياة بعد خمس دقائق. « » وهكذا نجد أن جميع النباتات والغابات والأعشاب وكل قطعة من الطحلب، وكل ما يتعلق بمياه الزرع، تبني تكوينها من الكربون والماء على الأخص. والحيوانات تلفظ ثاني أكسيد الكربون، بينما تلفظ النباتات الأكسجين. ولو كانت هذه المقايضة غير قائمة، فإن الحياة الحيوانية أو النباتية كانت تستنفد في النهاية كل الأكسجين، أو كل ثاني أكسيد الكربون تقريباً. ومتى انقلب التوازن تماماً ذوى النبات أو مات الإنسان، فيلحق به الآخر وشيكاً. وقد اكتشف أخيراً أن وجود ثاني أكسيد الكربون بمقادير صغيرة هو أيضاً ضروري لمعظم حياة الحيوان، كما اكتشف أن النباتات تستخدم بعض الأكسجين «. » ويجب أن يضاف الهيدروجين أيضاً، وإن كنا لا نتنسمه. فبدون الهيدروجين كان الماء لا يوجد. ونسبة الماء من المادة الحيوانية أو النباتية هي كبيرة لدرجة تدعو إلى الدهشة ولا غنى عنه مطلقاً «. وهناك دور الأزوت أو النتروجين في رزق الأرض. » وبدون النتروجين في شكل ما لا يمكن أن ينمو أي من النباتات الغذائية. وإحدى الوسيلتين اللتين يدخل بها النتروجين في التربة الزراعية هي طريق نشاط جراثيم «بكتريا» معينة تسكن في جذور النباتات البقلية، مثل البرسيم والحمص والبسلة والفول وكثير غيرها. وهذه الجراثيم تأخذ نتروجين الهواء وتحيله إلى نتروجين مركب قابل لأن يمتصه النبات وحين يموت النبات يبقى بعض هذا النتروجين المركب في الأرض «. » وهناك طريقة أخرى يدخل بها النتروجين إلى الأرض. وذلك عن طريق عواصف الرعد. وكلما ومض برق خلال الهواء، وحد بين قدر قليل من الأكسجين وبين النتروجين، فيسقطه المطر إلى الأرض كنتروجين مركب «(أي في الصورة التي يستطيع النبات امتصاصها لأنه لا يقدر على امتصاص النتروجين الخالص من الهواء ونسبته فيه حوالي 78% كما اسلفنا). والأرزاق المخبوءة في جوف الأرض من معادن جامدة وسائلة كلها ترجع إلى طبيعة تكوين الأرض والأحوال التي لابستها. ولا نطيل شرحها. فالرزق في ضوء هذه البيانات السريعة أوسع مدلولاً مما يفهمه الناس من هذا اللفظ. وأعمق أسباباً في تكوين الأرض ذاتها وفي تصميم الكون كله. وحين يأذن الله للناس في الأكل منه، فهو يتفضل بتسخيره لهم وتيسير تناوله؛ كما يمنح البشر القدرة على تناولها والانتفاع بها: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه}.. وهو محدود بزمن مقدر في علم الله وتدبيره زمن الابتلاء بالموت والحياة، وبكل ما يسخره الله للناس في هذه الحياة. فإذا انقضت فترة الابتلاء كان الموت وكان ما بعده: {وإليه النشور}.. إليه.. وإلاّ فإلى أين إن لم يكن إليه؟ والملك بيده؟ ولا ملجأ منه إلا إليه؟ وهو على كل شيء قدير؟ والآن وبينما هم في هذا الأمان على ظهر الأرض الذلول، وفي هذا اليسر الفائض بإذن الله وأمره.. الآن يهز هذه الأرض الساكنة من تحت أقدامهم هزاً ويرجها رجاً فإذا هي تمور. ويثير الجو من حولهم فإذا هو حاصب يضرب الوجوه والصدور.. يهز هذه الأرض في حسهم ويثير هذا الحاصب في تصورهم، لينتبهوا من غفلة الأمان والقرار، ويمدوا بأبصارهم إلى السماء وإلى الغيب، ويعلقوا قلوبهم بقدر الله: {أأمنتم من في السمآء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور؟ أم أمنتم من في السمآء أن يرسل عليكم حاصباً؟ فستعلمون كيف نذير! ولقد كذب الذين من قبلهم. فكيف كان نكير؟}.. والبشر الذين يعيشون على ظهر هذه الدابة الذلول، ويحلبونها فينالون من رزق الله فيها نصيبهم المعلوم! يعرفون كيف تتحول إلى دابة غير ذلول ولا حلوب، في بعض الأحيان، عندما يأذن الله بأن تضطرب قليلاً فيرتج كل شيء فوق ظهرها أو يتحطم! ويمور كل ما عليها ويضطرب فلا تمسكه قوة ولا حيلة. ذلك عند الزلازل والبراكين، التي تكشف عن الوحش الجامح، الكامن في الدابة الذلول، التي يمسك الله بزمامها فلا تثور إلا بقدر، ولا تجمح إلا ثواني معدودات يتحطم فيها كل ما شيد الإنسان على ظهرها؛ أو يغوص في جوفها عندما تفتح أحد أفواهها وتخسف كسفة منها.. وهي تمور.. البشر ولا يملكون من هذا الأمر شيئاً ولا يستطيعون. وهم يبدون في هول الزلزال والبركان والخسف كالفئران الصغيرة محصورة في قفص الرعب، من حيث كانت آمنة لاهية غافلة عن القدرة الكبرى الممسكة بالزمام! والبشر كذلك يشهدون العواصف الجامحة الحاصبة التي تدمر وتخرب، وتحرق وتصعق. وهم بإزائها ضعاف عاجزون، بكل ما يعلمون وما يعملون. والعاصفة حين تزأر وتضرب بالحصى الحاصب، وتأخذ في طريقها كل شيء في البر أو البحر أو الجو يقف الإنسان أمامها صغيراً هزيلاً حسيراً حتى يأخذ الله بزمامها فتسلس وتلين! والقرآن يذكر البشر الذين يخدعهم سكون الدابة وسلامة مقادتها، ويغريهم الأمان بنسيان خالقها ومروضها. يذكرهم بهذه الجمحات التي لا يملكون من أمرها شيئاً. والأرض الثابتة تحت أقدامهم ترتج وتمور، وتقذف بالحمم وتفور. والريح الرخاء من حولهم تتحول إلى إعصار حاصب لا تقف له قوة في الأرض من صنع البشر، ولا تصده عن التدمير.. يحذرهم وينذرهم في تهديد يرج الأعصاب ويخلخل المفاصل. {فستعلمون كيف نذير} !!! ويضرب لهم الأمثلة من واقع البشرية، ومن وقائع الغابرين المكذبين: {ولقد كذب الذين من قبلهم، فكيف كان نكير؟}... والنكير الإنكار وما يتبعه من الآثار، ولقد أنكر الله ممن كذبوا قبلهم أن يكذبوا. وهو يسألهم: {فكيف كان نكير؟} وهم يعلمون كيف كان، فقد كانت آثار الدمار والخراب تصف لهم كيف كان هذا النكير! وكيف كان ما أعقبه من تدمير! والأمان الذي ينكره الله على الناس، هو الأمان الذي يوحي بالغفلة عن الله وقدرته وقدره، وليس هو الاطمئنان إلى الله ورعايته ورحمته. فهذا غير ذاك. فالمؤمن يطمئن إلى ربه، ويرجو رحمته وفضله. ولكن هذا لا يقوده إلى الغفلة والنسيان والانغمار في غمرة الأرض ومتاعها، إنما يدعوه إلى التطلع الدائم، والحياء من الله، والحذر من غضبه، والتوقي من المخبوء في قدره، مع الإخبات والاطمئنان. قال الإمام أحمد بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته. إنما كان يبتسم. وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه. قالت: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ قد عذب قوم بالريح. وقد رأى قوم العذاب وقالوا، هذا عارض ممطرنا» فهذا هو الإحساس اليقظ الدائم بالله وقدره، وبما قصه القرآن من هذا في سيره. وهو لا ينافي الاطمئنان إلى رحمة الله وتوقع فضله. ثم هو إرجاع جميع الأسباب الظاهرة إلى السبب الأول. ورد الأمر بحاله وكليته إلى من بيده الملك وهو على كل شيء قدير. فالخسف والحاصب، والبراكين والزلازل، والعواصف، وسائر القوى الكونية والظواهر الطبيعية ليس في أيدي البشر من أمرها شيء. إنما أمرها إلى الله. وكل ما يذكره البشر عنها فروض يحاولون بها تفسير حدوثها، ولكنهم لا يتدخلون في إحداثها، ولا يحمون أنفسهم منها. وكل ما ينشئونه على ظهر الأرض تذهب به رجفة من رجفاتها، أو إعصار من أعاصيرها، كما لو كان لعباً من الورق! فأولى لهم أن يتوجهوا في أمرها إلى خالق هذا الكون، ومنشئ نواميسه التي تحكم هذه الظواهر، ومودعه القوى التي يتجلى جانب منها في هذه الأحداث. وأن يتطلعوا إلى السماء حيث هي رمز للعلو فيتذكروا الله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. إن الإنسان قوي بالقدر الذي وهبه الله من القوة. عالم بالقدر الذي أعطاه الله من العلم. ولكن هذا الكون الهائل زمامه في يد خالقه، ونواميسه من صنعه، وقواه من إمداده. وهذه القوى تسير وفق نواميسه في حدود قدره. وما يصيب الإنسان منها مقدور مرسوم، وما يعلمه الإنسان منها مقدور معلوم. والوقائع التي تحدث تقف هذا الإنسان بين الحين والحين أمام قوى الكون الهائلة مكتوف اليدين حسيراً، ليس له إلا أن يتذكر خالق هذه القوى ومروضها؛ وإلا أن يتطلع إلى عونه ليواجهها، ويسخر ما هو مقدور له أن يسخره منها. وحين ينسى هذه الحقيقة، ويغتر وينخدع بما يقسم الله له من العلم ومن القدرة على تسخير بعض قوى الكون، فإنه يصبح مخلوقاً مسيخاً مقطوعاً عن العلم الحقيقي الذي يرفع الروح إلى مصدرها الرفيع؛ ويخلد إلى الأرض في عزلة عن روح الوجود! بينما العالم المؤمن يركع في مهرجان الوجود الجميل، ويتصل ببارئ الوجود الجليل. وهو متاع لا يعرفه إلا من ذاق حلاوته حين يكتبها الله له! على أن قوى الكون الهائلة تلجئ الإنسان إلجاءً إلى موقف العجز والتسليم سواء رزق هذه الحلاوة أم حرمها. فهو يكشف ما يكشف، ويبدع ما يبدع، ويبلغ من القوة ما يبلغ. ثم يواجه قوى الكون في انكسار الحسير الصغير الهزيل. وقد يستطيع أن يتقي العاصفة أحياناً ولكن العاصفة تمضي في طريقها لا يملك وقفها. ولا يملك أن يقف في طريقها، وقصارى ما يبلغ إليه جهده وعلمه أن يحتمي من العاصفة وينزوي عنها!.. أحياناً.. وأحياناً تقتله وتسحقه من وراء جدرانه وبنيانه. وفي البحر تتناوحه الأمواج والأعاصير فإذا أكبر سفائنه كلعبة الصبي في مهب الرياح. أما الزلزال والبركان فهما هما من أول الزمان إلى آخر الزمان! فليس إلا العمى هو الذي يهيِّئ لبعض المناكيد أن «الإنسان يقوم وحده» في هذا الوجود، أو أنه سيد هذا الوجود! إن الإنسان مستخلف في هذه الأرض بإذن الله. موهوب من القوة والقدرة والعلم ما يشاء الله. والله كالئه وحاميه. والله رازقه ومعطيه. ولو تخلت عنه يد الله لحظة لسحقته أقل القوى المسخرة له، ولأكله الذباب وما هو أصغر من الذباب. ولكنه بإذن الله ورعايته مكلوء. ومحفوظ. وكريم. فليعرف من أين يستمد هذا التكريم، وذلك الفضل العظيم. بعدئذ ينتقل بهم من لمسة التهديد والنذير، إلى لمسة التأمل والتفكير. في مشهد يرونه كثيراً، ولا يتدبرونه إلا قليلاً. وهو مظهر من مظاهر القدرة، وأثر من آثار التدبير الإلهي اللطيف. {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن؟ ما يمسكهن إلا الرحمن، إنه بكل شيء بصير}.. وهذه الخارقة التي تقع في كل لحظة، تنسينا بوقوعها المتكرر، ما تشي به من القدرة والعظمة. ولكن تأمل هذا الطير، وهو يصف جناحيه ويفردهما، ثم يقبضهما ويضمهما، وهو في الحالين: حالة الصف الغالبة، وحالة القبض العارضة يظل في الهواء، يسبح فيه سباحة في يسر وسهولة؛ ويأتي بحركات يخيل إلى الناظر أحياناً أنها حركات استعراضية لجمال التحليق والانقضاض والارتفاع! تأمل هذا المشهد، ومتابعة كل نوع من الطير في حركاته الخاصة بنوعه، لا يمله النظر، ولا يمله القلب. وهو متعة فوق ما هو مثار تفكير وتدبر في صنع الله البديع، الذي يتعانق فيه الكمال والجمال! والقرآن يشير بالنظر إلى هذا المشهد المثير: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن؟}.. ثم يوحي بما وراءه من التدبير والتقدير: {ما يمسكهن إلا الرحمن}.. والرحمن يمسكهن بنواميس الوجود المتناسقة ذلك التناسق العجيب، الملحوظ فيه كل صغيرة وكبيرة، المحسوب فيه حساب الخلية والذرة. . النواميس التي تكفل توافر آلاف الموافقات في الأرض والجو وخلقة الطير، لتتم هذه الخارقة وتتكرر، وتظل تتكرر بانتظام. والرحمن يمسكهن بقدرته القادرة التي لا تكل، وعنايته الحاضرة التي لا تغيب. وهي التي تحفظ هذه النواميس أبداً في عمل وفي تناسق وفي انتظام. فلا تفتر ولا تختل ولا تضطرب غمضة عين إلى ما شاء الله: {ما يمسكهن إلا الرحمن}.. بهذا التعبير المباشر الذي يشي بيد الرحمن تمسك بكل طائر وبكل جناح، والطائر صاف جناحيه وحين يقبض، وهو معلق في الفضاء! {إنه بكل شيء بصير}.. يبصره ويراه. ويبصر أمره ويخبره. ومن ثم يهيِّئ وينسق، ويعطي القدرة، ويرعى كل شيء في كل لحظة، رعاية الخبير البصير. وإمساك الطير في الجو كإمساك الدواب على الأرض الطائرة بما عليها في الفضاء. كإمساك سائر الأجرام التي لا يمسكها في مكانها إلا الله. ولكن القرآن يأخذ بأبصار القوم وقلوبهم إلى كل مشهد يملكون رؤيته وإدراكه؛ ويلمس قلوبهم بإيحاءاته وإيقاعاته. وإلا فصنعة الله كلها إعجاز وكلها إبداع، وكلها إيحاء وكلها إيقاع. وكل قلب وكل جيل يدرك منها ما يطيقه، ويلحظ منها ما يراه. حسب توفيق الله. ثم يلمس قلوبهم لمسة أخرى تعود بهم إلى مشهد البأس والفزع من الخسف والحاصب، بعد أن جال بهم هذه الجولة مع الطير السابح الآمن. فيردد قلوبهم بين شتى اللمسات عوداً وبدءاً كما يعلم الله من أثر هذا الترداد في قلوب العباد: {أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن؟ إن الكافرون إلا في غرور}.. وقد خوفهم الخسف وخوفهم الحاصب، وذكرهم مصائر الغابرين الذين أنكر الله عليهم فأصابهم التدمير. فهو يعود ليسألهم: من هو هذا الذي ينصرهم ويحميهم من الله، غير الله؟ من هو هذا الذي يدفع عنهم بأس الرحمن إلا الرحمن؟ {إن الكافرون إلا في غرور}.. غرور يهيئ لهم أنهم في أمن وفي حماية وفي اطمئنان، وهم يتعرضون لغضب الرحمن وبأس الرحمن، بلا شفاعة لهم من إيمان ولا عمل يستنزل رحمة الرحمن. ولمسة أخرى في الرزق الذي يستمتعون به، وينسون مصدره، ثم لا يخشون ذهابه، ثم يلجون في التبجح والإعراض: {أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه؟ بل لجوا في عتو ونفور}.. ورزق البشر كله كما سلف معقود بإرادة الله في أول أسبابه، في تصميم هذا الكون وفي عناصر الأرض والجو. وهي أسباب لا قدرة للبشر عليها إطلاقاً، ولا تتعلق بعملهم بتاتاً، فهي أسبق منهم في الوجود، وهي أكبر منهم في الطاقة، وهي أقدر منهم على محو كل أثر للحياة حين يشاء الله. فمن يرزق البشر إن أمسك الماء، أو أمسك الهواء، أو أمسك العناصر الأولى التي منها ينشأ وجود الأشياء؟ إن مدلول الرزق أوسع مدى وأقدم عهداً وأعمق جذوراً مما يتبادر إلى الذهن عندما يسمع هذه الكلمة. ومرد كل صغيرة وكبيرة فيه إلى قدرة الله وقدره، وإرساله للأسباب وإمساكها حين يشاء. وفي هذا المدلول الكبير الواسع العميق تنطوي سائر المدلولات القريبة لكلمة الرزق، مما يتوهم الإنسان أنها من كسبه وفي طوقه، كالعمل، والإبداع، والإنتاج.. وكلها مرتبطة بقيام الأسباب والعناصر الأولى من جهة ومتوقفه على هبة الله للأفراد والأمم من جهة أخرى. فأي نفس يتنفسه العامل، وأي حركة يتحركها، إلا من رزق الله، الذي أنشأه، ومنحه المقدرة والطاقة، وخلق له النفس الذي يتنفسه، والمادة التي تحترق في جسده فتمنحه القدرة على الحركة؟ وأي جهد عقلي يبذله مخترع إلا وهو من رزق الله الذي منحه القدرة على التفكير والإبداع؟ وأي إنتاج ينتجه عامل أو مبدع إلا في مادة هي من صنع الله ابتداء، وإلا بأسباب كونية وإنسانية هي من رزق الله أصلاً؟.. {أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه؟!}.. {بل لجوا في عتو ونفور}. والتعبير يرسم خداً مصعراً، وهيئة متبجحة، بعد تقريره لحقيقة الرزق، وأنهم عيال على الله فيه، وأقبح العتو والنفور، والتبجح والتصعير، ما يقع من العيال في مواجهة المطعم الكاسي، الرازق العائل وهم خلو من كل شيء إلا ما يتفضل به عليهم. وهم بعد ذلك عاتون معرضون وقحاء! وهو تصوير لحقيقة النفوس التي تعرض عن الدعوة إلى الله في طغيان عات، وفي إعراض نافر، وتنسى أنها من صنع الله، وأنها تعيش على فضله، وأنها لا تملك من أمر وجودها وحياتها ورزقها شيئاً على الإطلاق! ولقد كانوا مع هذا يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه بالضلال؛ ويزعمون لأنفسهم أنهم أهدى سبيلاً! كما يصنع أمثالهم مع الدعاة إلى الله في كل زمان. ومن ثم يصور لهم واقع حالهم وحال المؤمنين في مشهد حي يجسم حقيقة الحال: {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى؟ أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم؟}.. والذي يمشي مكباً على وجهه إما أن يكون هو الذي يمشي على وجهه فعلاً لا على رجليه في استقامة كما خلقه الله، وإما أن يكون هو الذي يعثر في طريقه فينكب على وجهه، ثم ينهض ليعثر من جديد! وهذه كتلك حال بائسة تعاني المشقة والعسر والتعثر، ولا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا وصول! وأين هي من حال الذي يمشي مستقيماً سوياً في طريق لا عوج فيه ولا عثرات، وهدفه أمامه واضح مرسوم؟! إن الحال الأولى هي حال الشقي المنكود الضال عن طريق الله، المحروم من هداه، الذي يصطدم بنواميسه ومخلوقاته، لأنه يعترضها في سيره، ويتخذ له مساراً غير مسارها، وطريقاً غير طريقها، فهو أبداً في تعثر، وأبداً في عناء، وأبداً في ضلال. والحال الثانية هي حال السعيد المجدود المهتدي إلى الله، الممتع بهداه، الذي يسير وفق نواميسه في الطريق اللاحب المعمور، الذي يسلكه موكب الإيمان والحمد والتمجيد. وهو موكب هذا الوجود كله بما فيه من أحياء وأشياء. إن حياة الإيمان هي اليسر والاستقامة والقصد. وحياة الكفر هي العسر والتعثر والضلال.. فأيهما أهدى؟ وهل الأمر في حاجة إلى جواب؟ إنما هو سؤال التقرير والإيجاب! ويتوارى السؤال والجواب ليتراءى للقلب هذا المشهد الحي الشاخص المتحرك.. مشهد جماعة يمشون على وجوههم، أو يتعثرون وينكبون على وجوههم لا هدف لهم ولا طريق. ومشهد جماعة أخرى تسير مرتفعة الهامات، مستقيمة الخطوات، في طريق مستقيم، لهدف مرسوم. إنه تجسيم الحقائق، وإطلاق الحياة في الصور، على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير.. وعلى ذكر الهدى والضلال، يذكرهم بما وهبهم الله من وسائل الهدى، وأدوات الإدراك ثم لم ينتفعوا بها، ولم يكونوا من الشاكرين: {قل: هو الذي أنشأكم، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلاً ما تشكرون}.. وحقيقة أن الله هو الذي أنشأ الإنسان، حقيقة تلح على العقل البشري، وتثبت ذاتها بتوكيد يصعب رده. فالإنسان قد وجد وهو أرفع وأعلم وأقدر ما يعلم من الخلائق وهو لم يوجد نفسه، فلا بد أن يكون هناك من هو أرفع وأعلم وأقدر منه أوجده.. ولا مفر من الاعتراف بخالق. فوجود الإنسان ذاته يواجهه بهذه الحقيقة. والمماراة فيها نوع من المماحكة لا يستحق الاحترام. والقرآن يذكر هذه الحقيقة هنا ليذكر بجانبها ما زود الله به الإنسان من وسائل المعرفة: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة}.. وما قابل الإنسان به هذه النعمة: نعمة الإنشاء ونعمة السمع والأبصار والأفئدة: {قليلاً ما تشكرون}.. والسمع والأبصار معجزتان كبيرتان عرف عنهما بعض خواصهما العجيبة. والأفئدة التي يعبر بها القرآن عن قوة الإدراك والمعرفة، معجزة أعجب وأغرب. ولم يعرف بعد عنها إلا القليل. وهي سر الله في هذا المخلوق الفريد.. وللعلم الحديث محاولات في معرفة شيء عن معجزتي السمع والبصر نذكر منها لمحة: «تبدأ حاسة السمع بالأذن الخارجية، ولا يعلم الا الله أين تنتهي. ويقول العلم: إن الاهتزاز الذي يحدثه الصوت في الهواء ينقل إلى الأّذن، التي تنظم دخوله، ليقع على طبلة الأذن. وهذه تنقلها إلى التيه داخل الأذن». «والتيه يشتمل على نوع من الأقنية بين لولبية ونصف مستديرة. وفي القسم اللولبي وحده أربعة آلاف قوس صغيرة متصلة بعصب السمع في الرأس». «فما طول القوس منها وحجمها؟ وكيف ركبت هذه الأقواس التي تبلغ عدة آلاف كل منها تركيباً خاصاً؟ وما الحيز الذي وضعت فيه؟ ناهيك عن العظام الأخرى الدقيقة المتماوجة. هذا كله في التيه الذي لا يكاد يرى! وفي الأذن مائة ألف خلية سمعية. وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة. دقة وعظمة تحير الألباب «. » ومركز حاسة الإبصار العين، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليوناً من مستقبلات الضوء، وهي أطراف أعصاب الإبصار. وتتكون العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية.. وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية. «وتتكون الشبكية من تسع طبقات منفصلة، والطبقة التي في أقصى الداخل تتكون من أعواد ومخروطات. ويقال: إن عدد الأولى ثلاثون مليون عود، وعدد الثانية ثلاثة ملايين مخروط. وقد نظمت كلها في تناسب محكم بالنسبة لبعضها البعض وبالنسبة للعدسات.. وعدسة عينيك تختلف في الكثاقة، ولذا تجمع كل الأشعة في بؤرة، ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أية مادة من جنس واحد كالزجاج مثلاً». فأما الأفئدة فهي هذه الخاصية التي صار بها الإنسان إنساناً. وهي قوة الإدراك والتمييز والمعرفة التي استخلف بها الإنسان في هذا الملك العريض. والتي حمل بها الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال. أمانة الإيمان الاختياري، والاهتداء الذاتي، والاستقامة الإرادية على منهج الله القويم ولا يعلم أحد ماهية هذه القوة، ولا مركزها، داخل الجسم أو خارجه! فهي سر الله في الإنسان لم يعلمه أحد سواه. وعلى هذه الهبات الضخمة التي أعطيها الإنسان لينهض بتلك الأمانة الكبرى، فإنه لم يشكر: {قليلاً ما تشكرون}.. وهو أمر يثير الخجل والحياء عند التذكير به، كما يذكرهم القرآن في هذا المجال ويذكر كل جاحد وكافر، لا يشكر نعمة الله عليه؛ وهو لا يوفيها حقها لو عاش للشكر دون سواه! ثم يذكرهم أن الله لم ينشئ البشر ويمنحهم هذه الخصائص عبثاً ولا جزافاً لغير قصد ولا غاية. إنما هي فرصة الحياة للابتلاء. ثم الجزاء في يوم الجزاء: {قل: هو الذي ذرأكم في الأرض، وإليه تحشرون}.. والذرء: الإكثار. ويحمل كذلك معنى الانتشار. والحشر: الجمع بعد النشر في الأرجاء. وهما حركتان متقابلتان من الناحية التصورية، تقابلهما من الناحية المعنوية. ذلك مشهد للإكثار من الخلق ونشرهم أو نثرهم في الأرض. وهذا مشهد لجمعهم منها وحشرهم بعد النشر والنثر! ويجمعهما السياق في آية واحدة، ليتقابل المشهدان في الحس والتصور على طريقة القرآن. وليتذكر البشر وهم منتشرون في الأرض أن هناك غاية هم صائرون إليها، هي الجمع والحشر. وأن هناك أمراً وراء هذا، ووراء الابتلاء بالموت والحياة. ثم يحكي شكهم في هذا الحشر، وارتيابهم في هذا الوعد: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟}.. وهو سؤال الشاك المستريب. كما أنه سؤال المماحك المتعنت. فإن معرفة موعد هذا الوعد وميقاته لا تقدم ولا تؤخر؛ ولا علاقة لها بحقيقته، وهو أنه يوم الجزاء بعد الابتلاء. ويستوي بالقياس إليهم أن يجيء غداً أو أن يجيء بعد ملايين السنين.. فالمهم أنه آت، وأنهم محشورون فيه، وأنهم مجازون بما عملوا في الحياة. ومن ثم لم يطلع الله أحداً من خلقه على موعده، لأنه لا مصلحة لهم في معرفته، ولا علاقة لهذا بطبيعة هذا اليوم وحقيقته، ولا أثر له في التكاليف التي يطالب الناس بها استعداداً لملاقاته، بل المصلحة والحكمة في إخفاء ميقاته عن الخلق كافة، واختصاص الله بعلم ذلك الموعد، دون الخلق جميعاً: {قل إنما العلم عند الله، وإنما أنا ندير مبين}. وهنا يبرز بجلاء فارق ما بين الخالق والمخاليق. وتتجرد ذات الله ووحدانية بلا شبيه ولا شريك. ويتمحض العلم له سبحانه. ويقف الخلق بما فيهم الرسل والملائكة في مقامهم متأدبين عند مقام الألوهية العظيم: {قل: إنما العلم عند الله. وإنما أنا نذير مبين}.. وظيفتي الإنذار، ومهمتي البيان. أما العلم فعند صاحب العلم الواحد بلا شريك. وبينما هم يسألون في شك ويجابون في جزم، يخيل السياق القرآني كأن هذا اليوم الذي يسألون عنه قد جاء، والموعد الذي يشكون فيه قد حان؛ وكأنما هم واجهوه الآن. فكان فيه ما كان: {فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا، وقيل: هذا الذي كنتم به تدعون} ! فقد رأوه قريباً مواجهاً لهم حاضراً أمامهم دون توقع ودون تمهيد. فسيئت وجوههم، وبدا فيها الاستياء. ووجه إليهم التأنيب: {وقيل: هذا الذي كنتم به تدعون}.. هذا هو حاضراً قريباً. وهو الذي كنتم تدعون أنه لن يكون! وهذه الطريقة في عرض ما سيكون تتكرر في القرآن، لمواجهة حال التكذيب أو الشك بمفاجأة شعورية تصويرية تقف المكذب أو الشاك وجهاً لوجه مع مشهد حاضر لما يكذب به أو يشك فيه. ثم هي في الوقت ذاته تصور حقيقة. فهذا اليوم كائن في علم الله؛ أما خط الزمن بينه وبين البشر فهو قائم بالقياس إلى البشر. وهي مسألة نسبية لا تمثل الحقيقة المجردة كما هي في حساب الله. ولو أذن الله لرأوه اللحظة كما هو في علم الله. فهذا الانتقال المفاجئ لهم من الدنيا إلى الآخرة، ومن موقف الشك والارتياب إلى موقف المواجهة والمفاجأة، يشير إلى حقيقة قائمة لو أذن الله بها لانكشفت لهم. في الوقت الذي يصور لهم هذه الحقيقة تصويراً يهز مشاعرهم. ولقد كانوا يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم والحفنة المؤمنة التي معه أن يهلكوا فيستريحوا منهم؛ وكانوا يتواصون بينهم بالصبر عليه حتى يوافيه الأجل، فتسكن هذه الزوبعة التي أثارتها الدعوة في صفوفهم. كما كانوا يتبجحون أحياناً فيزعمون أن الله سيهلك محمداً ومن معه لأنهم ضالون، ولأنهم يكذبون على الله فيما يقولون! فهنا أمام مشهد الحشر والجزاء، ينبههم إلى أن أمنيتهم حتى لو تحققت لا تعصمهم هم من عاقبة الكفر والضلال. فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم قبل هذا الموعد الذي واجههم به كأنه واقع بهم: {قل: أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا، فمن يجير الكافرين من عذاب أليم؟}.. وهو سؤال يردهم إلى تدبر حالهم، والتفكير في شأنهم، وهو الأولى! فما ينفعهم أن تتحقق أمانيهم فيهلك الله النبي ومن معه كما لا ينقذهم بطبيعة الحال أن يرحم الله نبيه ومن معه. والله باق لا يموت. وهو الذي ذرأهم في الأرض وإليه يحشرون.. ولكنه لا يقول لهم: فمن يجيركم من عذاب أليم؟ ولا ينص على أنهم كافرون. إنما يلوح لم بالعذاب الذي ينتظر الكافرين: {فمن يجير الكافرين من عذاب أليم}.. وهو أسلوب في الدعوة حكيم، يخوفهم من ناحية، ويدع لهم فرصة للتراجع عن موقفهم من ناحية. فلو جابههم بأنهم كافرون، وأنه لا مفر لهم من العذاب الأليم.. فربما جهلوا وحمقوا وأخذتهم العزة بالإثم أمام الاتهام المباشر والتهديد. ففي بعض الحالات يكون أسلوب التلميح أفعل في النفس من أسلوب التصريح! ثم يترقى من هذه التسوية بين الأمرين، إلى تقرير موقف المؤمنين من ربهم وثقتهم به وتوكلهم عليه، مع التلميح إلى اطمئنانهم لإيمانهم، وثقتهم بهداهم، وبأن الكافرين في ضلال مبين. {قل: هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا. فستعلمون من هو في ضلال مبين}.. وذكر صفة {الرحمن} هنا يشير إلى رحمته العميقة الكبيرة برسوله والمؤمنين معه؛ فهو لن يهلكهم كما يتمنى الكافرون أو كما يدعون. ويوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبراز الصلة التي تربطهم بربهم الرحمن. صلة الإيمان {آمنا به}.. وصلة التوكل {وعليه توكلنا}.. عليه وحده.. والتعبير يشي بالقربى بينهم وبين الرحمن. والله سبحانه هو الذي يتفضل على رسوله وعلى المؤمنين فيأذن له بإعلان هذه القربى، ويوجهه إلى هذا الإعلان. وكأنما ليقول له: لا تخف مما يقوله الكفار. فأنت ومن معك موصولون بي منتسبون إليَّ. وأنت مأذون مني في أن تظهر هذه الكرامة، وهذا المقام! فقل لهم... وهذا ود من الله وتكريم.. ثم ذلك التهديد الملفوف: {فستعلمون من هو في ضلال مبين}.. وهو أسلوب كذلك من شأنه أن يخلخل الإصرار على الجحود؛ ويدعوهم إلى مراجعة موقفهم مخافة أن يكونوا هم الضالين! فيتعرضوا للعذاب الذي سبق ذكره في الآية: {فمن يجير الكافرين من عذاب أليم؟} وفي الوقت ذاته لا يجبههم بأنهم ضالون فعلاً، حتى لا تأخذهم العزة بالإثم.
|